الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
عاش النبي صلى الله عليه وسلم حياته كلها باذلاً وقته وعمره ونفسه للدعوة إلى الله، وتبليغ دينه، وصل إلى قلوب الخلق بخلقه وتواضعه، فلم تغرُّه يوماً زينة الدنيا وما في أيدي الناس، بل كان زاهداً فيها، معرضاً عنها وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لي مثل أحد ذهباً ما يسرني أن لا يمر عليَّ ثلاث وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين)) رواه البخاري برقم (2259)، وهذا حاله في بيته مع أزواجه وأهل بيته صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام حتى قُبض" رواه البخاري برقم (5374).
تقول الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير" رواه البخاري برقم (5414)، وقالت: "إنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلَّة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقال عروة: ما كان يقيتكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء" رواه البخاري برقم (6459) واللفظ له، ومسلم برقم (2972)، ومع هذا كان يقول صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوت1)) رواه البخاري برقم (6460)، ومسلم برقم (1055).
ومازالت الأيام تمضي بنبينا صلى الله عليه وسلم ما بين تعليم ودعوة، وجهاد وفتح، وتطلع إلى ما عند الله تعالى من النعيم الدائم والفوز بالجنة، لم يركن يوماً إلى الدعة والراحة، بل كان دائم التعبد، كثير الالتجاء إلى ربه ، يقوم الليل، ويصوم النهار، كثير التوبة والأوبة والاستغفار، حياته ليس بها تكلف، يأكل من الطعام المباح ما تيسر ولا يتكلف في ذلك، ويقبل الهدية ويكافئ عليها، ويخصف نعليه، ويرقع ثوبه, ويخدم في مهنة أهله, ويحلب شاته, ويخدم نفسه، وكان أشد الناس تواضعاً، يجيب الداعي: من غني أو فقير، أو دنيء أو شريف، ويحب المساكين، ويشهد جنائزهم، ويعود مرضاهم، ولا يحقر فقير لفقره, ولا يهاب ملكاً لملكه, وكان يركب الفرس, والبعير, والحمار, والبغلة, ويردف خلفه, ولا يدع أحداً يمشي خلفه، أحسن الناس خَلْقَاً، وخُلُقَاً، وألينهم كفَّاً، وأطيبهم ريحاً، وأكملهم عقلاً، وأحسنهم عشرة، وأعلمهم بالله وأشدهم له خشية2، وأشجع الناس، وأكرم الناس، وأحسنهم قضاء، وأسمحهم معاملة، وأكثرهم اجتهاداً في طاعة ربه، وأصبرهم وأقواهم تحملاً، وأشدهم حياء، لا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، ولكنه إذا انتهكت حرمات الله فإنه ينتقم لله تعالى، وقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض، لكنه اختار الآخرة عليه3 زهداً فيها لعلمه أنه لن يأخذ معه منها شيء.
أمارات وعلامات قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:
وعندما بلغ عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستون عاماً تتابعت الأمارات الدالة على قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم واضحة صريحة تتحدث عن وفاته قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(الزمر:30)، وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}(آل عمران:144).
ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر أصحاب بدنو أجله لم يفجأهم بالخبر، بل ضرب مثلاً فهم منه بعض الصحابة مرامه فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله خيَّر عبداً بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده؛ فاختار ما عند الله)) فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا, فعجبنا له, وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك آبائنا وأمهاتنا, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد المخير, وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر لا تبكي، إن من أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر, ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر, ولكن أخوَّة الإسلام ومودته, لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر)) رواه البخاري برقم (3454)، ومسلم برقم (2382)، قال ابن حجر رحمه الله: "وكأن أبا بكر رضي الله عنه فهم الرمز الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى"4.
ثم نزلت عليه سورة النصر وفيها نعي النبي صلى الله عليه وسلم بدنو أجله، وأن موعد ارتحاله من الدنيا للقاء ربه قد حان، فأكثر من العبادة والمداومة عليها فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر القول قبل أن يموت: ((سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك))، قالت: قلت: يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟ قال: ((جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}(النصر:1)) رواه مسلم برقم (484).
ومن تلك الأمارات ما وقع من عرض جبريل القرآن مع النبي صلى الله عليه وسلم تقول فاطمة رضي الله عنها: "أسرَّ إليَّ: ((إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي))، فبكيت، فقال: ((أما ترضين أن تكوني سيدة أهل الجنة أو نساء المؤمنين؟)) فضحكت لذلك" رواه البخاري برقم (3624) واللفظ له، ومسلم برقم (2450).
ويدنو أجل النبي صلى الله عليه وسلم ويقترب فيأخذ بتذكير أصحابه بدنو أجله، وكانوا كلما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم شيئاً أجهشوا بالبكاء، فعن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنبهني رسول الله من الليل فقال: ((يا أبا مويهبة إني قد أُمرت أن استغفر لأهل هذا البقيع)) فخرجت معه حتى أتينا البقيع، فرفع يديه فاستغفر لهم طويلاً، ثم قال: ((ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شرٌ من الأولى، يا أبا مويهبة: إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخُيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي، والجنة))، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال: ((والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة))، ثم انصرف رسول الله، فلما أصبح ابتدأ بوجعه الذي قبضه الله فيه"5"6.
ثم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شهداء أحد، ويصلي عليهم بعد ثماني سنوات كالمودع للأحياء والأموات فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع إلى المنبر فقال: ((إني بين أيديكم فرط، وإني عليكم لشهيد، وإن موعدكم حوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا؛ ولكني أخشى عليكم الدنيا وتنافسوها))، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم" رواه البخاري برقم (3816)، ومسلم برقم (2296).
بداية مرض النبي صلى الله عليه وسلم واشتداد الوجع عليه:
ثم يدخل النبي عليه الصلاة والسلام على أزواجه، وتظهر عليه أعراض الشكوى من المرض الذي قُبض فيه فعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: "أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيت ميمونة، فاشتد مرضه حتى أغمى عليه"7.
وقد بدأ وجع النبي صلى الله عليه وسلم في رأسه: كما تروي السيدة عائشة رضي الله عنها حال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من دفن إحدى جنائز بعض أصحابه فتقول: "رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وارأساه، فقال: ((بل أنا يا عائشة وارأساه))، ثم قال: ((ما ضرَّك لو متِّ قبلي فقمت عليك فغسلتك وكفنتك، وصليت عليك ودفنتك؟)) فقلت:كأني بك والله لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فعرست ببعض نسائك، فقالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بُدئ في وجعه الذي مات فيه"8.
ثم أصابته حمى شديدة لم يعهدها الصحابة من قبل: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدي عليه فوجدت حرة بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك؟ قال: ((إنا كذلك، يضعف لنا البلاء، ويضع
ف لنا الأجر))"9، وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت أحداً أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري برقم (5322)، ومسلم برقم (2570)، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل إني أوعك كما رجلان منكم))، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه شوكة فما فوقها إلا حطَّ الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها))" رواه البخاري برقم (5324)، ومسلم برقم (2571).
ويزداد المرض على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويثقل عليه، ويستأذن أزواجه أن يُمَرَّض في بيت عائشة رضي الله عنه لصعوبة أن يدور بينهن فيأذَنَّ له كما في حديث عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النساء - تعنى في مرضه - فاجتمعن فقال: ((إني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذنَّ لي فأكون عند عائشة فعلتن))، فأذنَّ له"10.
نقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت عائشة: تقول عائشة رضي الله عنها: "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس ورجل آخر... وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ما دخل بيته، واشتد وجعه: ((هريقوا عليَّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس))، وأجلس في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم طفقنا نصب عليه تلك حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن، ثم خرج إلى الناس" رواه البخاري برقم (195).
بداية التمريض، وخشية اللحظات الصعاب: بدأت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في تمريضه، يمرضنه ويمرضه المسلمون، وهم مشفقون من قدوم تلك اللحظات الصعاب، وكان من دأبه صلى الله عليه وسلم قبل هذه المرة من مرضه أن يدعو لنفسه ويرقيها كما بيَّنت عائشة رضي الله عنها: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، قالت: فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عليه بيمينه رجاء بركتها" رواه البخاري برقم (4728)، ومسلم برقم (2192)، فكأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقوى حتى على القراءة على نفسه صلى الله عليه وسلم11.
آخر الخطب النبوية: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء، حتى جلس على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد: فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن ولي منكم شيئاً يضر فيه قوماً، وينفع فيه آخرين، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم))، فكان آخر مجلس جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري برقم (3429).
النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي أثر السم: ثم يعود النبي صلى الله عليه وسلم ويحدِّث عائشة رضي الله عنها أنه يجد سم تلك المرأة اليهودية يوم خيبر تقول عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم))" رواه البخاري برقم (4165)، قال ابن حجر رحمه الله: "وعاش بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قبض فيه، وجعل يقول: ما زلت أجد ألم الأكلة التي أكلتها بخيبر عداداً حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري))12.
وتدخل عليه أم مبشر في وجعه الذي قُبض فيه فتقول: "بأبي وأمي يا رسول الله ما تتهم بنفسك؟ فإني لا أتهم إلا الطعام الذي أُكل معك بخيبر، وكان ابنها مات قبل النبي صلى الله عليه و سلم، وقال: ((وأنا لا أتهم غيره هذا أوان قطع أبهري))13
آخر صلاة صلاها المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم:ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم ليصلى بالمسلمين صلاته الأخيرة، إنها آخر صلاة للنبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين, وآخر آيات تتلى من فيِّ النبي صلى الله عليه وسلم كما تروي أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها قالت: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفاً، ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله" رواه البخاري برقم (4166)14.
النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أمته بالصلاة، ويحرص عليها وهو في مرضه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه: ((الصلاة، وما ملكت أيمانكم))"15، وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنه قال: دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أصلى الناس))؟ قلنا: لا؛ هم ينتظرونك، قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب))، قالت: ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال صلى الله عليه وسلم: ((أصلى الناس))؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب))، قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس))؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب))، فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس))؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي عليه السلام لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر - وكان رجلاً رقيقاً -: يا عمر صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفَّة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يتأخر، قال: ((أجلساني إلى جنبه))، فأجلساه إلى جنب أبي بكر قال: فجعل أبو بكر يصلي، وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاة أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد، قال: عبيد الله فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: هات، فعرضت عليه حديثها، فما أنكر شيئاً غير أنه قال: أسمَّت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو عليّ" رواه البخاري برقم (655)، ومسلم برقم (418).
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك وهو على فراش الموت: فمنذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأوحي إليه؛ وهو يحارب الشرك، ويدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك حذَّر صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت من الشرك، وذرائعه، ومن مشابهة اليهود والنصارى باتخاذ قبور الأنبياء مساجد؛ حتى لا تقع أمته فيه، فيتخذ قبره وثناً ومزاراً يُعبد من دون الله فعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، وهو كذلك يقول: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يُحذِّر ما صنعوا" رواه البخاري برقم (425)، ومسلم برقم (531).
وعن عائشة رضي الله عنها: "أنهم تذاكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، فذكرت أم سلمة وأم حبيبة كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصوير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة))" رواه البخاري برقم (417)، ومسلم برقم (528)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(لا تجعلوا بيوتكم قبوراً, ولا تجعلوا قبري عيداً, وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم))16 قالت عائشة رضي الله عنها: "ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يُتخذ مسجداً" رواه البخاري برقم (1265).
تجهيز جيش أسامة بن زيد وإنفاذه: وقد أمر عليه الصلاة والسلام وأوصى بإنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه, وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى أنه"كان تجهيز جيش أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيومين, وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم, فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر, ودعا أسامة وقال: "سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل, فقد وليتك هذا الجيش..."17، فبُدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه في اليوم الثالث فعقد لأسامة لواء بيده، فأخذه أسامة, وكان ممن انتُدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار, ثم اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: أنفذوا جيش أسامة، فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف فسار عشرين ليلة إلى الجهة التي أُمر بها, وقتل قاتل أبيه، ورجع الجيش سالماً، وقد غنموا.18
السواك في فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت:فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي, وفي يومي, وبين سحري, ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته, دخل عليَّ عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك, فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه, وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته" رواه البخاري برقم (4184)، وفي رواية: فقصمته, ثم مضغته"، وفي رواية: "فقضمته، ونفضته، وطيبته، ثم دفعته إلى النبي صلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستن به، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استن استناناً قط أحسن منه" رواه البخاري برقم (4174).
فاطمة رضي الله عنها تبكي فراق أبيها: وعن أنس رضي الله عنه قال: "لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه, فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا كرب أباه، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم))، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب رباً دعاه, يا لأبتاه من جنة الفردوس مأواه, يا أبتاه إلى جبريل ننعاه..." رواه البخاري برقم (4193).
إلى الرفيق الأعلى: ويأتي يوم الاثنين أصعب يوم في ذاكرة الأمة، وبينما المسلمون في صلاة الفجر، وأبو بكر يصلي لهم، لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليهم بيده أن: أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة، وأرخى الستر19، واشتد المرض على النبي صلى الله عليه وسلم اشتداداً كبيراً فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو صحيح يقول: ((إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده في الجنة، ثم يحيا أو يخير))، فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غُشِيَ عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: ((اللهم في الرفيق الأعلى))، فقلت: إذاً لا يجاورنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح" رواه البخاري برقم (4173).
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله إن للموت سكرات))، ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى))، حتى قُبض، ومالت يده صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري برقم (6145).
وتصمت الدنيا، ويسكن الكون، وتهدأ الأصوات، وينقطع خبر السماء، ويتوقف جبريل عن أمر عزيز جدُّ عزيز، ويقع الحدث بموت النبي صلى الله عليه وسلم، ويبكي الصحابة، ويُعقَرُ عمر، وتصير الوفاة حقيقة، وتذوق بيوت المدينة كلها طعم الموت المرير، ويحاول كل الأحبة دفع خبر موت النبي صلى الله عليه وسلم من أفكارهم فلا يصدقون أنه صلى الله عليه وسلم مات20، وقد جزم ابن كثير رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً حيث قال: "وإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة"21، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لئن أحلف تسعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلاً؛ أحبَّ إليَّ من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل, وذلك؛ لأن الله اتخذه نبياً واتخذه شهيداً"22، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، ولما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا"23..
تقول فاطمة رضي الله عنها مخاطبة أنس بن مالك رضي الله عنه: "يا أنس: أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟" رواه البخاري برقم (4193).
فاللهم اجزي عنا حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم خير ما جزيت نبياً عن أمته، وارزقنا مرافقته في جناتك جنات النعيم، اللهم إنا نشهدك أن نفوسنا تهفوا إلى حبيبنا حبيب البشرية صلى الله عليه وسلم؛ فاحشرنا في زمرته، واسقنا شربة من حوضه، وارزقنا شفاعته، آمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.